فصل: باب مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَتَكَلُّفِ مَا لَا يَعْنِيهِ

مساءً 2 :56
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَتَكَلُّفِ مَا لَا يَعْنِيهِ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏)‏ كأنه يريد أن يستدل بالآية على المدعي من الكراهة وهو مصير منه إلى ترجيح بعض ما جاء في تفسيرها، وقد ذكرت الاختلاف في سبب نزولها في تفسير سورة المائدة، وترجيح ابن المنير أنه في كثرة المسائل عما كان وعما لم يكن، وصنيع البخاري يقتضيه، والأحاديث التي ساقها في الباب تؤيده، وقد اشتد إنكار جماعة من الفقهاء ذلك، منهم القاضي أبو بكر بن العربي فقال‏:‏ اعتقد قوم من الغافلين منع السؤال عن النوازل إلى أن تقع تعلقا بهذه الآية وليس كذلك لأنها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المسألة في جوابه، ومسائل النوازل ليست كذلك، انتهى‏.‏

وهو كما قال لأن ظاهرها اختصاص ذلك بزمان نزول الوحي؛ ويؤيده حديث سعد الذي صدر به المصنف الباب ‏"‏ من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته، فإن مثل ذلك قد أمن وقوعه ‏"‏ ويدخل في معنى حديث سعد ما أخرجه البزار وقال‏:‏ سنده صالح وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء رفعه ‏"‏ ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئا ‏"‏ ثم تلا هذه الآية ‏(‏وما كان ربك نسيا‏)‏ وأخرج الدار قطني من حديث أبي ثعلبة رفعه ‏"‏ إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ‏"‏ وله شاهد من حديث سلمان أخرجه الترمذي، وآخر من حديث ابن عباس أخرجه أبو داود وقد أخرج مسلم وأصله في البخاري كما تقدم في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ من طريق ثابت عن أنس قال‏:‏ كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل الغافل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع، فذكر الحديث ومضى في قصة اللعان من حديث ابن عمر ‏"‏ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ‏"‏ ولمسلم عن النواس بن سمعان قال‏:‏ أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ومراده أنه قدم وافدا فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجرا فيمتنع عليه السؤال، وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفودا كانوا أو غيرهم‏.‏

وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال‏:‏ لما نزلت ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء‏)‏ الآية، كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم فأتينا أعرابيا فرشوناه بردا وقلنا سل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأبي يعلى عن البراء إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب - أي قدومهم - ليسألوا فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب فيستفيدوها، وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة، كالسؤال عن الذبح بالقصب، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى والمحيض والنساء والصيد وغير ذلك، لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عما لم يقع، أخذوه بطريق الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لما كانت سببا للتكليف بما يشق فحقها أن تجتنب، وقد عقد الإمام الدارمي في أوائل مسنده لذلك بابا، وأورد فيه عن الجماعة من الصحابة والتابعين آثارا كثيرة في ذلك، منها عن ابن عمر ‏"‏ لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن ‏"‏ وعن عمر ‏"‏ أحرج عليكم أن تسألوا عما لم يكن فإن لنا فيما كان شغلا ‏"‏ وعن زيد ابن ثابت أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول‏:‏ كان هذا فإن قيل لا، قال‏:‏ دعوه حتى يكون، وعن أبي ابن كعب وعن عمار نحو ذلك‏.‏

وأخرج أبو داود في المراسيل من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة مرفوعا، ومن طريق طاوس عن معاذ رفعه ‏"‏ لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد أو وفق، وإن عجلتم تشتت بكم السبل ‏"‏ وهما مرسلان يقوي بعض بعضا، ومن وجه ثالث عن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعا ‏"‏ لا يزال في أمتي من إذا سئل سدد وأرشد حتى يتساءلوا عما لم ينزل ‏"‏ الحديث نحوه قال بعض الأئمة والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين، أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها فهذا مطلوب لا مكروه بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين، ثانيهما‏:‏ أن يدقق النظر في وجوه الفروق فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلا فهذا الذي ذمه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ هلك المتنطعون ‏"‏ أخرجه مسلم فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع وهي نادرة الوقوع جدا، فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى ولا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه، وأشد من ذلك في كثرة السؤال، البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس، كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة، إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف‏.‏

والكثير منه لم يثبت فيه شيء فيجب الإيمان به من غير بحث، وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة، وسيأتي مثال ذلك في حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ‏"‏ وهو ثامن أحاديث هذا الباب‏.‏

وقال بعض الشراح‏:‏ مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع، بعد أن يفتى بالإذن أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق، هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا‏؟‏ فيجيبه بالجواز فإن عاد فقال أخشى أن يكون من نهب أو غصب، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة فيحتاج أن يجيبه بالمنع، ويقيد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى، ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز، وإذا تقرر ذلك فمن يسد باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها فإنه يقل فهمه وعلمه، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة، فإنه يذم فعله وهو عين الذي كرهه السلف ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك مقتصرا على ما يصلح للحجة منها فإنه الذي يحمد وينتفع به، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم حتى حدثت الطائفة الثانية فعارضتها الطائفة الأولى، فكثر بينهم المراء والجدال وتولدت البغضاء وتسموا خصوما وهم من أهل دين واحد، والواسط هو المعتدل من كل شيء، وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي ‏"‏ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ‏"‏ فإن الاختلاف يجر إلى عدم الانقياد وهذا كله من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم، وأما العمل بما ورد في الكتاب والسنة والتشاغل به فقد وقع الكلام في أيهما أولى، والإنصاف أن يقال كلما زاد على ما هو في حق المكلف فرض عين فالناس فيه على قسمين من وجد في نفسه قوة على الفهم والتحرير فتشاغله بذلك أولى من إعراضه عنه وتشاغله بالعبادة لما فيه من النفع المتعدي، ومن وجد في نفسه قصورا فإقباله على العبادة أولى لعسر اجتماع الأمرين، فإن الأول لو ترك العلم لأوشك أن يضيع بعض الأحكام بإعراضه، والثاني لو أقبل على العلم وترك العبادة فاته الأمران لعدم حصول الأول له وإعراضه به عن الثاني والله الموفق‏.‏

ثم المذكور في الباب تسعة أحاديث‏:‏ بعضها يتعلق بكثرة المسائل، وبعضها يتعلق بتكليف ما لا يعني السائل، وبعضها بسبب نزول الآية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا سعيد‏)‏ هو ابن أبي أيوب كذا وقع من وجهين آخرين عند الإسماعيلي، و ‏"‏ أبي نعيم ‏"‏ وهو الخزاعي المصري يكنى أبا يحيى، واسم أبي أيوب مقلاص بكسر الميم وسكون القاف وآخره مهملة كان سعيد ثقة ثبتا‏.‏

وقال ابن يونس كان فقيها، ونقل عن ابن وهب أنه قال فيه كان فهما‏.‏

قلت‏:‏ وروايته عن عقيل وهو ابن خالد تدخل في رواية الأقران فإنه من طبقته، وقد أخرج مسلم هذا الحديث من رواية معمر ويونس وابن عيينة وإبراهيم بن سعد كلهم عن ابن شهاب، وساقه على لفظ إبراهيم بن سعد ثم ابن عيينة‏.‏

قوله ‏(‏عن أبيه‏)‏ في رواية يونس أنه سمع سعدا‏.‏

قوله ‏(‏إن أعظم المسلمين جرما‏)‏ زاد في رواية مسلم ‏"‏ إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما ‏"‏ قال الطيبي فيه من المبالغة أنه جعله عظيما ثم فسره بقوله ‏"‏ جرما ‏"‏ ليدل على أنه نفسه جرم، قال وقوله ‏"‏ في المسلمين ‏"‏ أي في حقهم‏.‏

قوله ‏(‏عن شيء‏)‏ في رواية سفيان ‏"‏ أمر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لم يحرم‏)‏ زاد مسلم على الناس وله في رواية إبراهيم بن سعد، لم يحرم على المسلمين، وله في رواية معمر ‏"‏ رجل سأل عن شيء ونقر عنه ‏"‏ وهو بفتح النون وتشديد القاف بعدها راء أي بالغ في البحث عنه والاستقصاء‏.‏

قوله ‏(‏فحرم‏)‏ بضم أوله وتشديد الراء، وزاد مسلم ‏"‏ عليهم ‏"‏ وله من رواية سفيان ‏"‏ على الناس ‏"‏ وأخرج البزار من وجه آخر عن سعد بن أبي وقاص، قال‏:‏ كان الناس يتساءلون عن الشيء من الأمر فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم وهو حلال فلا يزالون يسألونه عنه حتى يحرم عليهم، قال ابن بطال‏:‏ عن المهلب ظاهر الحديث يتمسك به القدرية في أن الله يفعل شيئا من أجل شيء وليس كذلك، بل هو على كل شيء قدير؛ فهو فاعل السبب والمسبب كل ذلك بتقديره، ولكن الحديث محمول على التحذير مما ذكر، فعظم جرم من فعل ذلك لكثرة الكارهين لفعله وقال غيره أهل السنة لا ينكرون إمكان التعليل وإنما ينكرون وجوبه، فلا يمتنع أن يكون المقدر الشيء الفلاني تتعلق به الحرمة إن سئل عنه فقد سبق القضاء بذلك لا أن السؤال علة للتحريم‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ قيل الجرم اللاحق به إلحاق المسلمين المضرة لسؤاله وهي منعهم التصرف فيما كان حلالا قبل مسألته‏.‏

وقال عياض المراد بالجرم هنا الحدث على المسلمين لا الذي هو بمعنى الإثم المعاقب عليه، لأن السؤال كان مباحا، ولهذا قال‏:‏ سلوني، وتعقبه النووي فقال هذا الجواب ضعيف بل باطل، والصواب الذي قاله الخطابي والتيمي وغيرهما أن المراد بالجرم الإثم والذنب وحملوه على من سأل تكلفا وتعنتا فيما لا حاجة له به إليه، وسبب تخصيصه ثبوت الأمر بالسؤال عما يحتاج إليه لقوله تعالى ‏(‏فاسألوا أهل الذكر‏)‏ فمن سأل عن نازلة وقعت له لضرورته إليها فهو معذور فلا إثم عليه ولا عتب، فكل من الأمر بالسؤال والزجر عنه مخصوص بجهة غير الأخرى، قال‏:‏ ويؤخذ منه أن من عمل شيئا أضر به غيره كان آثما، وسبك منه الكرماني سؤالا وجوابا، فقال‏:‏ السؤال ليس بجريمة، ولئن كانت فليس بكبيرة، ولئن كانت فليس بأكبر الكبائر‏.‏

وجوابه أن السؤال عن الشيء بحيث يصير سببا لتحريم شيء مباح هو أعظم الجرم، لأنه صار سببا لتضييق الأمر على جميع المكلفين، فالقتل مثلا كبيرة، ولكن مضرته راجعة إلى المقتول وحده، أو إلى من هو منه بسبيل، بخلاف صورة المسألة فضررها عام للجميع، وتلقى هذا الأخير من الطيبي استدلالا وتمثيلا، وينبغي أن يضاف إليه أن السؤال المذكور إنما صار كذلك بعد ثبوت النهي عنه‏.‏

فالإقدام عليه حرام فيترتب عليه الإثم ويتعدى ضرره بعظم الإثم والله أعلم‏.‏

ويؤيد ما ذهب إليه الجماعة من تأويل الحديث المذكور ما أخرجه الطبري من طريق محمد بن زياد ‏"‏ عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن الحج أفي كل عام‏؟‏ لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ثم تركتم لضللتم ‏"‏ وله من طريق أبي عياض عن أبي هريرة ‏"‏ ولو تركتموه لكفرتم ‏"‏ وبسند حسن عن أبي أمامة مثله، وأصله في مسلم عن أبي هريرة بدون الزيادة، وإطلاق الكفر إما على من جحد الوجوب فهو على ظاهره، وإما على من ترك مع الإقرار فهو على سبيل الزجر والتغليظ، ويستفاد منه عظم الذنب بحيث يجوز وصف من كان السبب في وقوعه بأنه وقع في أعظم الذنوب، كما تقدم تقريره والله أعلم‏.‏

وفي الحديث أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد الشرع بخلاف ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ سَمِعْتُ أَبَا النَّضْرِ يُحَدِّثُ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا لَيَالِيَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ مَا زَالَ بِكُمْ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسحاق‏)‏ هو ابن منصور لقوله حدثنا عفان؛ وإسحاق بن راهويه إنما يقول ‏"‏ أنا ‏"‏ ولأن أبا نعيم أخرجه من طريق أبي خيثمة عن عفان، ولو كان في مسند إسحاق لما عدل عنه‏.‏

قوله ‏(‏اتخذ حجرة‏)‏ بالراء للأكثر وللمستملي بالزاي وهما بمعنى‏.‏

قوله ‏(‏من صنيعكم‏)‏ في رواية السرخسي ‏"‏ صنعكم ‏"‏ بضم أوله وسكون النون وهما بمعنى، وقد تقدم بعض من شرح هذا الحديث في الباب الذي قبل باب إيجاب التكبير، فذكر ‏"‏ أبواب صفة الصلاة ‏"‏ وساقه هناك عن عبد الأعلى عن وهيب، وتقدمت سائر فوائده في شرح حديث عائشة في معناه في ‏"‏ باب ترك قيام الليل ‏"‏ من أبواب التهجد ولله الحمد، والذي يتعلق بهذه الترجمة من هذا الحديث ما يفهم من إنكاره صلى الله عليه وسلم ما صنعوا من تكلف ما لم يأذن لهم فيه من التجميع في المسجد في صلاة الليل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ وَقَالَ سَلُونِي فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي فَقَالَ أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَضَبِ قَالَ إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ

الشرح‏:‏

حديث أبي موسى قال ‏"‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها فلما أكثروا عليه المسألة غضب ‏"‏ عرف من هذه الأسئلة ما تقدم في تفسير المائدة في بيان المسائل المرادة بقوله تعالى ‏(‏لا تسألوا عن أشياء‏)‏ ومنها سؤال من سأل ‏"‏ أين ناقتي ‏"‏ وسؤال من سأل عن البحيرة والسائبة، وسؤال من سأل عن وقت الساعة وسؤال من سأل عن الحج أيجب كل عام وسؤال من سأل أن يحول الصفا ذهبا وقد وقع في حديث أنس من رواية هشام وغيره عن قتادة عنه في الدعوات وفي الفتن‏:‏ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، ومعنى أحفوه وهو بالمهملة والفاء‏:‏ أكثروا عليه حتى جعلوه كالحافي، يقال أحفاه في السؤال إذا ألح عليه‏.‏

قوله ‏(‏وقال سلوني‏)‏ في حديث أنس المذكور فصعد المنبر فقال ‏"‏ لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ‏"‏ وفي رواية سعيد بن بشير عن قتادة عند أبي حاتم، فخرج ذات يوم حتى صعد المنبر ‏"‏ وبين في رواية الزهري المذكورة في هذا الباب وقت وقوع ذلك وأنه بعد أن صلى الظهر، ولفظه ‏"‏ خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر فلما سلم قام على المنبر فذكر الساعة ثم قال من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه فذكر نحوه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقام رجل فقال‏:‏ يا رسول الله من أبي‏)‏ بين في حديث أنس من رواية الزهري اسمه‏.‏

وفي رواية قتادة سبب سؤاله، قال‏:‏ فقام رجل كان إذا لاحى - أي خاصم - دعي إلى غير أبيه، وذكرت اسم السائل الثاني، وأنه سعد وإني نقلته من ترجمة سهيل بن أبي صالح من تمهيد ابن عبد البر وزاد في رواية الزهري الآتية بعد حديثين، فقام إليه رجل فقال‏:‏ أين مدخلي يا رسول الله‏؟‏ قال النار، ولم أقف على اسم هذا الرجل في شيء من الطرق، كأنهم أبهموه عمدا للستر عليه وللطبراني من حديث أبي فراس الأسلمي نحوه وزاد ‏"‏ وسأله رجل في الجنة أنا‏؟‏ قال في الجنة ‏"‏ ولم أقف على اسم هذا الآخر، ونقل ابن عبد البر عن رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته، لا يسألني أحد عن شيء إلا أخبرته، ولو سألني عن أبيه، فقام عبد الله بن حذافة وذكر فيه عتاب أمه له وجوابه‏.‏

وذكر فيه ‏"‏ فقام رحل فسأل عن الحج ‏"‏ فذكره وفيه فقام سعد مولى شيبة فقال‏:‏ من أنا يا رسول الله‏؟‏ قال أنت سعد بن سالم مولى شيبة، وفيه فقام رجل من بني أسد فقال‏:‏ أين أنا‏؟‏ قال في النار‏.‏

فذكر قصة عمر قال‏:‏ فنزلت ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء‏)‏ الآية ‏"‏ ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال وكثرة السؤال ‏"‏ وبهذه الزيادة يتضح أن هذه القصة سبب نزول ‏(‏لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏)‏ فإن المساءة في حق هذا جاءت صريحة، بخلافها في حق عبد الله بن حذافة فإنها بطريق الجواز، أي لو قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه فبين أباه الحقيقي لافتضحت أمه، كما صرحت بذلك أمه حين عاتبته على هذا السؤال كما تقدم في ‏"‏ كتاب الفتن‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فلما رأى عمر ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغضب‏)‏ بين في حديث أنس أن الصحابة كلهم فهموا ذلك، ففي رواية هشام ‏"‏ فإذا كل رجل لافا رأسه في ثوبه يبكي ‏"‏ وزاد في رواية سعيد ابن بشير ‏"‏ وظنوا أن ذلك بين يدي أمر قد حضر ‏"‏ وفي رواية موسى بن أنس عن أنس الماضية في تفسير المائدة ‏"‏ فغضوا رءوسهم لهم حنين ‏"‏ زاد مسلم من هذا الوجه ‏"‏ فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كان أشد منه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال‏:‏ إنا نتوب إلى الله عز وجل‏)‏ زاد في رواية الزهري ‏"‏ فبرك عمر على ركبته فقال‏:‏ رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ‏"‏ وفي رواية قتادة من الزيادة ‏"‏ نعوذ بالله من شر الفتن ‏"‏ وفي مرسل السدي عند الطبري في نحو هذه القصة ‏"‏ فقام إليه عمر فقبل رجله وقال‏:‏ رضينا بالله ربا‏"‏‏.‏

فذكر مثله وزاد ‏"‏ وبالقرآن إماما، فاعف عفا الله عنك فلم يزل به حتى رضي ‏"‏ وفي هذا الحديث غير ما يتعلق بالترجمة، مراقبة الصحابة أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وشدة إشفاقهم إذا غضب، خشية أن يكون لأمر يعم فيعمهم، وإدلال عمر عليه، وجواز تقبيل رجل الرجل، وجواز الغضب في الموعظة، وبروك الطالب بين يدي من يستفيد منه، وكذا التابع بين يدي المتبوع إذا سأله في حاجة، ومشروعية التعوذ من الفتن عند وجود شيء قد يظهر منه قرينة وقوعها، واستعمال المزاوجة في الدعاء في قوله ‏"‏ اعف عفا الله عنك ‏"‏ وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم معفو عنه قبل ذلك‏.‏

قال ابن عبد البر سئل مالك عن معنى النهي عن كثرة السؤال، فقال ما أدري أنهى عن الذي أنتم فيه من السؤال عن النوازل، أو عن مسألة الناس المال، قال ابن عبد البر‏:‏ الظاهر الأول، وأما الثاني فلا معنى للتفرقة بين كثرته وقلته لا حيث يجوز ولا حيث لا يجوز قال‏:‏ وقيل كانوا يسألون عن الشيء ويلحون فيه إلى أن يحرم، قال‏:‏ وأكثر العلماء على أن المراد كثرة السؤال عن النوازل والأغلوطات والتوليدات كذا قال‏:‏ وقد تقدم الإلمام بشيء من ذلك في ‏"‏ كتاب العلم‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ قَالَ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدِ الْبَنَاتِ وَمَنْعٍ وَهَاتِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا موسى‏)‏ هو ابن إسماعيل و ‏"‏ عبد الملك ‏"‏ هو ابن عمير‏.‏

قوله ‏(‏وكتب إليه‏)‏ هو معطوف على قوله ‏"‏ فكتب إليه ‏"‏ وهو موصول بالسند المذكور، وقد أفرد كثير من الرواة أحد الحديثين عن الآخر، والغرض من إيراده هنا أنه كان ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال، وقد تقدم البحث في المراد بكثرة السؤال في ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ هل هو خاص بالمال أو بالأحكام أو لأعم من ذلك والأولى حمله على العموم لكن فيما ليس للسائل به احتياج كما تقدم ذكره، وتقدم شرح الحديث الأول في الدعوات، والثاني في الرقاق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ نُهِينَا عَنْ التَّكَلُّفِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن أنس كنا عند عمر فقال‏:‏ نهينا عن التكلف‏)‏ هكذا أورده مختصرا‏.‏

وذكر الحميدي أنه جاء في رواية أخرى عن ثابت عن أنس أن عمر قرأ ‏(‏وفاكهة وأبا‏)‏ فقال‏:‏ ما الأب‏؟‏ ثم قال ما كلفنا أو قال ما أمرنا بهذا‏.‏

قلت‏:‏ هو عند الإسماعيلي من رواية هشام عن ثابت وأخرجه من طريق يونس ابن عبيد عن ثابت بلفظ‏:‏ ‏"‏ أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله ‏(‏وفاكهة وأبا‏)‏ ما الأب‏؟‏ فقال عمر‏:‏ نهينا عن التعمق والتكلف ‏"‏ وهذا أولى أن يكمل به الحديث الذي أخرجه البخاري، وأولى منه ما أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق أبي مسلم الكجي عن سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه، ولفظه عن أنس‏:‏ ‏"‏ كنا عند عمر وعليه قميص في ظهره أربع رقاع، فقرأ‏:‏ ‏(‏وفاكهة وأبا‏)‏ فقال‏:‏ هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب‏؟‏ ثم قال‏:‏ مه نهينا عن التكلف ‏"‏ وقد أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن سليمان بن حرب بهذا السند مثله سواء، وأخرجه أيضا عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة بدل حماد بن زيد‏.‏

وقال بعد قوله فما الأب، ثم قال‏:‏ يا ابن أم عمر إن هذا لهو التكلف وما عليك أن لا تدرى ما الأب‏.‏

وسليمان بن حرب سمع من الحمادين لكنه اختص بحماد بن زيد فإذا أطلق قوله حدثنا حماد فهو ابن زيد وإذا روى عن حماد بن سلمة نسبه‏.‏

وأخرج عبد بن حميد أيضا من طريق صالح بن كيسان عن الزهري عن أنس أنه أخبره أنه سمع عمر يقول ‏(‏فأنبتنا فيها حبا وعنبا‏)‏ الآية، إلى قوله وأبا قال كل هذا قد عرفناه فما الأب‏؟‏ ثم رمى عصا كانت في يده ثم قال‏:‏ هذا لعمر الله التكلف ‏"‏ اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب ‏"‏ وأخرجه الطبري من وجهين آخرين عن الزهري وقال في آخره ‏"‏ اتبعوا ما بين لكم في الكتاب ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ ما بين لكم فعليكم به ومالا فدعوه ‏"‏ وأخرج عبد بن حميد أيضا من طريق إبراهيم النخعي عن عبد الرحمن بن زيد ‏"‏ أن رجلا سأل عمر عن فاكهة وأبا فلما رآهم عمر يقولون أقبل عليهم بالدرة ‏"‏ ومن وجه آخر عن إبراهيم النخعي قال ‏"‏ قرأ أبو بكر الصديق وفاكهة وأبا فقيل ما الأب‏؟‏ فقيل كذا وكذا فقال أبو بكر إن هذا لهو التكلف، أي أرض تقلني أو أي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله بما لا أعلم ‏"‏ وهذا منقطع بين النخعي والصديق وأخرج أيضا من طريق إبراهيم التيمي ‏"‏ أن أبا بكر سئل عن الأب ما هو فقال‏:‏ أي سماء تظلني ‏"‏ فذكر مثله، وهو منقطع أيضا لكن أحدهما يقوي الآخر وأخرج الحاكم في تفسير آل عمران من المستدرك من طريق حميد عن أنس قال‏:‏ قرأ عمر ‏"‏ وفاكهة وأبا ‏"‏ فقال بعضهم كذا وقال بعضهم كذا فقال عمر‏:‏ دعونا من هذا آمنا به كل من عند ربنا‏.‏

وأخرج الطبري من طريق موسى ابن أنس نحوه ومن طريق معاوية بن قرة ومن طريق قتادة كلاهما عن أنس كذلك وقد جاء أن ابن عباس فسر ‏"‏ الأب ‏"‏ عند عمر فأخرج عبد بن حميد أيضا من طريق سعيد بن جبير قال‏:‏ كان عمر يدنى ابن عباس فذكر نحو القصة الماضية في تفسير ‏(‏إذا جاء نصر الله‏)‏ وفي آخرها وقال تعالى ‏(‏إنا صببنا الماء صبا‏)‏ إلى قوله ‏(‏وأبا‏)‏ قال‏:‏ فالسبعة رزق لبني آدم ‏"‏ والأب ما تأكل الأنعام ‏"‏ ولم يذكر أن عمر أنكر عليه ذلك وأخرج الطبري بسند صحيح عن عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس قال ‏"‏ الأب ما تنبته الأرض مما تأكله الدواب، ولا يأكله الناس ‏"‏ وأخرج عن عدة من التابعين نحو، ثم أخرج من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس بسند صحيح قال ‏"‏ الأب الثمار الرطبة ‏"‏ وهذا أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ ‏"‏ وفاكهة وأبا ‏"‏ قال‏:‏ الثمار الرطبة، وكأنه سقط منه واليابسة، فقد أخرج أيضا من طريق عكرمة عن ابن عباس بسند حسن ‏"‏ الأب الحشيش للبهائم ‏"‏ وفيه قول آخر أخرجاه من طريق عطاء قال‏:‏ كل شيء ينبت على وجه الأرض فهو أب، فعلى هذا فهو من العام بعد الخاص، ومن طريق الضحاك قال‏:‏ الأب كل شيء أنبتت الأرض سوى الفاكهة، وهذا أعم من الأول، وذكر بعض أهل اللغة أن الأب مطلق المرعى، واستشهد بقول الشاعر‏:‏ له دعوة ميمونة ريحها الصبا بها ينبت الله الحصيدة والأبا وقيل الأب ‏"‏ يابس الفاكهة ‏"‏ وقيل إنه ليس بعربي، ويؤيده خفاؤه على مثل أبي بكر وعمر‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ في إخراج البخاري هذا الحديث في آخر الباب مصير منه إلى أن قول الصحابي ‏"‏ أمرنا ونهينا ‏"‏ في حكم المرفوع ولو لم يضفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم اقتصر على قوله ‏"‏ نهينا عن التكلف ‏"‏ وحذف القصة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ وَذَكَرَ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ فَوَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا قَالَ أَنَسٌ فَأَكْثَرَ النَّاسُ الْبُكَاءَ وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي فَقَالَ أَنَسٌ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ أَيْنَ مَدْخَلِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ النَّارُ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ قَالَ ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي سَلُونِي فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ وَأَنَا أُصَلِّي فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ

الشرح‏:‏

حديث أنس وهو في معنى الحديث الرابع، وقد مضى شرحه أورده من وجهين عن الزهري وساقه هنا على لفظ معمر، وفي باب وقت الظهر من ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ بلفظ شعيب وهما متقاربان، ووقع هنا ‏"‏ فأكثر الأنصار البكاء ‏"‏ في رواية الكشميهني‏.‏

وفي رواية غيره ‏"‏ فأكثر الناس ‏"‏ وهي الصواب، وكذا وقع في رواية معمر وغيره ووقع هنا ‏"‏ فذكر الساعة وذكر أن بين يديها أمورا عظاما ‏"‏ وفي رواية شعيب، وذكر أن فيها أمورا عظاما وزاد هنا ‏"‏ فقام رجل فقال‏:‏ أين مدخلي ‏"‏ إلخ، ووقع هنا ‏"‏ وبمحمد رسولا ‏"‏ وفي رواية شعيب ‏"‏ ومحمد نبيا ‏"‏ ووقع هنا ‏"‏ فسكت حين قال ذلك عمر ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أولى ‏"‏ وسقط هذا كله من رواية شعيب قال المبرد‏:‏ يقال للرجل إذا أفلت من معضلة أولى لك، أي كدت تهلك‏.‏

وقال غيره هي بمعنى التهديد والوعيد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ أَبُوكَ فُلَانٌ وَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ الْآيَةَ

الشرح‏:‏

حديث أنس أيضا من رواية ابنه موسى عنه وأورده مختصرا وقد تقدم ما فيه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يَقُولُوا هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏ورقاء‏)‏ بقاف ممدود هو ابن عمر اليشكري وشيخه ‏"‏ عبد الله بن عبد الرحمن ‏"‏ هو ابن معمر بن حزم الأنصاري أبو طوالة بضم الطاء المهملة مشهور بكنيته‏.‏

قوله ‏(‏لن يبرح الناس يتساءلون‏)‏ في رواية المستملي ‏"‏ يسألون ‏"‏ وعند مسلم في رواية عروة عن أبي هريرة ‏"‏ لا يزال الناس يتساءلون‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏هذا الله خالق كل شيء‏)‏ في رواية عروة ‏"‏ هذا خلق الله الخلق ‏"‏ ولمسلم أيضا وهو في رواية البخاري في بدء الخلق من رواية عروة أيضا ‏"‏ يأتي الشيطان العبد أو أحدكم فيقول من خلق كذا وكذا حتى يقول من خلق ربك‏؟‏ ‏"‏ وفي لفظ لمسلم ‏"‏ من خلق السماء من خلق الأرض‏؟‏ فيقول الله ‏"‏ ولأحمد والطبراني من حديث خزيمة ابن ثابت مثله، ولمسلم من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة ‏"‏ حتى يقولوا هذا الله خلقنا ‏"‏ وله في رواية يزيد ابن الأصم عنه ‏"‏ حتى يقولوا الله خلق كل شيء ‏"‏ وفي رواية المختار بن فلفل عن أنس ‏"‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل إن أمتك لا تزال تقول ما كذا وكذا حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق ‏"‏ وللبزار من وجه آخر عن أبي هريرة ‏"‏ لا يزال الناس يقولون كان الله قبل كل شيء فمن قبله ‏"‏ قال التوربشتي، قوله ‏"‏ هذا خلق الله الخلق ‏"‏ يحتمل أن يكون هذا مفعولا والمعنى حتى يقال هذا القول وأن يكون مبتدأ حذف خبره، أي هذا الأمر قد علم، وعلى اللفظ الأول يعني رواية أنس عند مسلم ‏"‏ هذا الله ‏"‏ مبتدأ وخبر أو ‏"‏ هذا ‏"‏ مبتدأ و ‏"‏ الله ‏"‏ عطف بيان و ‏"‏ خلق الخلق ‏"‏ خبره قال الطيبي‏:‏ والأول أولى، ولكن تقديره هذا مقرر معلوم وهو أن الله خلق الخلق وهو شيء، وكل شيء مخلوق فمن خلقه فيظهر ترتيب ما بعد الفاء على ما قبلها‏.‏

قوله ‏(‏فمن خلق الله‏)‏ في رواية بدء الخلق ‏"‏ من خلق ربك ‏"‏ وزاد فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته، وفي لفظ لمسلم ‏"‏ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله ‏"‏ وزاد في أخرى و ‏"‏ رسله ‏"‏ ولأبي داود والنسائي من الزيادة فقولوا ‏(‏الله أحد الله الصمد‏)‏ السورة ‏"‏ ثم ليتفل عن يساره ثم ليستعذ ‏"‏ ولأحمد من حديث ‏"‏ عائشة فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسوله ‏"‏ فإن ذلك يذهب عنه، ولمسلم في رواية أبي سلمة عن أبي هريرة نحو الأول وزاد ‏"‏ فبينما أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب ‏"‏ فذكر سؤالهم عن ذلك وأنه رماهم بالحصا وقال ‏"‏ صدق خليلي ‏"‏ وله في رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة ‏"‏ صدق الله ورسوله ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ في حديث أنس الإشارة إلى ذم كثرة السؤال لأنها تفضي إلى المحذور كالسؤال المذكور، فإنه لا ينشأ إلا عن جهل مفرط، وقد ورد بزيادة من حديث أبي هريرة بلفظ ‏"‏ لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق الله، فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل آمنت بالله ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ ذاك صريح الإيمان ‏"‏ ولعل هذا هو الذي أراد الصحابي فيما أخرجه أبو داود من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال ‏"‏ جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنا نجد في أنفسنا الشيء يعظم أن نتكلم به ما نحب أن لنا الدنيا وأنا تكلمنا به، فقال أو قد وجدتموه‏؟‏ ذاك صريح الإيمان ‏"‏ ولابن أبي شيبة من حديث ابن عباس ‏"‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني أحدث نفسي بالأمر لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به ‏"‏ قال ‏"‏ الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة ‏"‏ ثم نقل الخطابي المراد بصريح الإيمان هو الذي يعظم في نفوسهم إن تكلموا به، ويمنعهم من قبول ما يلقى الشيطان، فلولا ذلك لم يتعاظم في أنفسهم حتى أنكروه، وليس المراد أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان بل هي من قبل الشيطان وكيده‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ قوله ‏"‏ نجد في أنفسنا الشيء ‏"‏ أي القبيح، نحو ما تقدم في حديث أنس وأبي هريرة، وقوله ‏"‏يعظم أن نتكلم به ‏"‏ أي للعلم بأنه لا يليق أن نعتقده، وقوله ‏"‏ذاك صريح الإيمان ‏"‏ أي علمكم بقبيح تلك الوساوس وامتناع قبولكم ووجودكم النفرة عنها دليل على خلوص إيمانكم، فإن الكافر يصر على ما في قلبه من المحال ولا ينفر عنه، وقوله في الحديث الآخر ‏"‏ فليستعذ بالله ولينته ‏"‏ أي يترك التفكر في ذلك الخاطر ويستعيذ بالله إذا لم يزل عنه التفكر، والحكمة في ذلك أن العلم باستغناء الله تعالى عن كل ما يوسوسه الشيطان أمر ضروري لا يحتاج للاحتجاج والمناظرة، فإن وقع شيء من ذلك فهو من وسوسة الشيطان وهي غير متناهية فمهما عورض بحجة يجد مسلكا آخر من المغالطة والاسترسال فيضيع الوقت إن سلم من فتنته، فلا تدبير في دفعه أقوى من الإلجاء إلى الله تعالى بالاستعاذة به كما قال تعالى ‏(‏وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله‏)‏ الآية‏.‏

وقال في شرح الحديث الذي فيه ‏"‏ فليقل الله الأحد ‏"‏ الصفات الثلاث منبهة على أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مخلوقا، أما أحد فمعناه الذي لا ثاني له ولا مثل، فلو فرض مخلوقا لم يكن أحدا على الإطلاق‏.‏

وسيأتي مزيد لهذا في شرح حديث عائشة في أول ‏"‏ كتاب التوحيد‏"‏‏.‏

وقال المهلب‏:‏ قوله صريح الإيمان، يعني الانقطاع في إخراج الأمر إلى ما لا نهاية له، فلا بد عند ذلك من إيجاب خالق لا خالق له لأن المتفكر العاقل يجد للمخلوقات كلها خالقا لأثر الصنعة فيها والحدث الجاري عليها والخالق بخلاف هذه الصفة فوجب أن يكون لكل منها خالق لا خالق له فهذا هو صريح الإيمان، لا البحث الذي هو من كيد الشيطان المؤدي إلى الحيرة‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ فإن قال الموسوس فما المانع أن يخلق الخالق نفسه، قيل له هذا ينقض، بعضه بعضا، لأنك أثبت خالقا وأوجبت وجوده ثم قلت‏:‏ يخلق نفسه فأوجبت عدمه، والجمع بين كونه موجودا معدوما فاسد لتناقضه، لأن الفاعل يتقدم وجوده على وجود فعله فيستحيل كون نفسه فعلا له‏.‏

وهذا واضح في حل هذه الشبهة وهو يفضي إلى صريح الإيمان انتهى ملخصا موضحا‏.‏

وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم فعزوه إليه أولى؛ ولفظه ‏"‏ إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال وقد وجدتموه قالوا نعم قال ذاك صريح الإيمان ‏"‏ وأخرج بعده من حديث ابن مسعود ‏"‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال‏:‏ تلك محض الإيمان ‏"‏ وحديث ابن عباس أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان وقال ابن التين ‏"‏ لو جاز لمخترع الشيء أن يكون له مخترع لتسلسل فلا بد من الانتهاء إلى موجد قديم، والقديم من لا يتقدمه شيء ولا يصح عدمه، وهو فاعل لا مفعول، وهو الله تبارك وتعالى ‏"‏ وقال الكرماني ‏"‏ ثبت أن معرفة الله بالدليل فرض عين أو كفاية، والطريق إليها بالسؤال عنها متعين لأنها مقدمتها ‏"‏ لكن لما عرف بالضرورة أن الخالق غير مخلوق أو بالكسب الذي يقارب الصدق كان السؤال عن ذلك تعنتا فيكون الذم يتعلق بالسؤال الذي يكون على سبيل التعنت وإلا فالتوصل إلى معرفة ذلك وإزالة الشبهة عنه صريح الإيمان، إذ لا بد من الانقطاع إلى من يكون له خالق دفعا للتسلسل‏.‏

وقد تقدم نحو هذا في صفة إبليس من ‏"‏ بدء الخلق ‏"‏ وما ذكره من ثبوت الوجوب يأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى في أول ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ ويقال إن نحو هذه المسألة وقعت في زمن الرشيد في قصة له مع صاحب الهند، وأنه كتب إليه هل يقدر الخالق أن يخلق مثله فسأل أهل العلم، فبدر شاب فقال‏:‏ هذا السؤال محال لأن المخلوق محدث والمحدث لا يكون مثل القديم، فاستحال أن يقال يقدر أن يخلق مثله أو لا يقدر، كما يستحيل أن يقال في القادر العالم يقدر أن يصير عاجزا جاهلا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَسْأَلُوهُ لَا يُسْمِعُكُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدِّثْنَا عَنْ الرُّوحِ فَقَامَ سَاعَةً يَنْظُرُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَتَأَخَّرْتُ عَنْهُ حَتَّى صَعِدَ الْوَحْيُ ثُمَّ قَالَ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود في سؤال اليهود عن الروح، وقد تقدم شرحه مستوفى في تفسير سورة سبحان وقوله في هذه الرواية ‏"‏ فقام ساعة فنظر، فعرفت أنه يوحى إليه فتأخرت حتى صعد الوحي ‏"‏ ظاهر في أنه أجابهم في ذلك الوقت وهو يرد على ما وقع في مغازي موسى بن عقبة، وسير سليمان التيمي أن جوابه تأخر ثلاثة أيام وفي سيرة ابن إسحاق، أنه تأخر خمسة عشر يوما، وسيأتي البحث في شيء منه بعد أربعة أبواب إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ الأصل فيه قوله تعالى ‏(‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة‏)‏ وقد ذهب جمع إلى وجوبه لدخوله في عموم الأمر بقوله تعالى ‏(‏وما آتاكم الرسول فخذوه‏)‏ وبقوله ‏(‏فاتبعوني يحببكم الله‏)‏ وبقوله تعالى ‏(‏فاتبعوه‏)‏ فيجب اتباعه في فعله كما يجب في قوله حتى يقوم دليل على الندب أو الخصوصية‏.‏

وقال آخرون‏:‏ يحتمل الوجوب والندب والإباحة فيحتاج إلى القرينة، والجمهور‏.‏

للندب إذا ظهر وجه القربة، وقيل ولو لم يظهر، ومنهم من فصل بين التكرار وعدمه‏.‏

وقال آخرون ما يفعله صلى الله عليه وسلم إن كان بيانا لمجمل فحكمه حكم ذلك المجمل وجوبا أو ندبا أو إباحة، فإن ظهر وجه القربة فللندب وما لم يظهر فيه وجه التقرب فللإباحة، وأما تقريره على ما يفعل بحضرته فيدل على الجواز، والمسألة مبسوطة في أصول الفقه، ويتعلق بها تعارض قوله وفعله، ويتفرع من ذلك حكم الخصائص وقد أفردت بالتصنيف، ولشيخ شيوخنا الحافظ صلاح الدين العلائي فيه مصنف جليل، وحاصل ما ذكر فيه ثلاثة أقوال أحدها يقدم القول لأن له صيغة تتضمن المعاني بخلاف الفعل، ثانيها الفعل لأنه لا يطرقه من الاحتمال ما يطرق القول، ثالثها يفزع إلى الترجيح، وكل ذلك محله ما لم تقم قرينة تدل على الخصوصية، وذهب الجمهور إلى الأول، والحجة له أن القول يعبر به عن المحسوس والمعقول بخلاف الفعل فيختص بالمحسوس، فكان القول أتم، وبأن القول متفق على أنه دليل بخلاف الفعل، ولأن القول يدل بنفسه بخلاف الفعل فيحتاج إلى واسطة، وبأن تقديم الفعل يفضي إلى ترك العمل بالقول والعمل بالقول يمكن معه العمل بما دل عليه الفعل فكان القول أرجح بهذه الاعتبارات‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ اتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَنَبَذَهُ وَقَالَ إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا سفيان‏)‏ هو الثوري كما جزم به المزي‏.‏

قوله ‏(‏عن ابن عمر‏)‏ في رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي نعيم بسنده سمعت ابن عمر‏.‏

قوله ‏(‏فاتخذ الناس خواتيم من ذهب‏)‏ وفيه ‏"‏ فنبذه وقال‏:‏ إني لم ألبسه أبدا فنبذ الناس خواتيمهم ‏"‏ اقتصر على هذا المثال لاشتماله على تأسيهم به في الفعل والترك، وقد تقدم شرح ما يتعلق بخاتم الذهب في ‏"‏ كتاب اللباس ‏"‏ قال ابن بطال بعد أن حكى الاختلاف في أفعاله عليه الصلاة والسلام محتجا لمن قال بالوجوب بحديث الباب، لأنه خلع خاتمه فخلعوا خواتمهم، ونزع نعله في الصلاة فنزعوا، ولما أمرهم عام الحديبية بالتحلل وتأخروا عن المبادرة رجاء أن يأذن لهم في القتال وأن ينصروا فيكملوا عمرتهم، قالت له أم سلمة أخرج إليهم واحلق واذبح ففعل فتابعوه مسرعين، فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول، ولما نهاهم عن الوصال قالوا إنك تواصل، فقال‏:‏ إني أطعم وأسقى فلولا أن لهم الاقتداء به لقال‏:‏ وما في مواصلتي ما يبيح لكم الوصال، لكنه عدل عن ذلك وبين لهم وجه اختصاصه بالمواصلة انتهى‏.‏

وليس في جميع ما ذكره ما يدل على المدعي من الوجوب، بل على مطلق التأسي به والعلم عند الله تعالى‏.‏

*3*باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ فِي الْعِلْمِ وَالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَالْبِدَعِ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما يكره من التعمق والتنازع‏)‏ زاد غير أبي ذر في العلم، وهو يتعلق بالتنازع والتعمق معا كما أن قوله ‏"‏ والغلو في الدين والبدع ‏"‏ يتناولهما وقوله‏:‏ لقول الله تعالى ‏(‏يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق‏)‏ صدر الآية يتعلق بفروع الدين، وهي المعبر عنه في الترجمة بالعلم وما بعده يتعلق بأصوله، فأما ‏"‏ التعمق ‏"‏ فهو بالمهملة وبتشديد الميم ثم قاف، ومعناه التشديد في الأمر حتى يتجاوز الحد فيه، وقد وقع شرحه في الكلام على الوصال في الصيام، حيث قال حتى يدع المتعمقون تعمقهم، وأما ‏"‏ التنازع ‏"‏ فمن المنازعة وهي في الأصل المجاذبة ويعبر بها عن المجادلة، والمراد بها المجادلة عند الاختلاف في الحكم إذا لم يتضح الدليل، والمذموم منه اللجاج بعد قيام الدليل، وأما ‏"‏ الغلو ‏"‏ فهو المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد وفيه معنى التعمق، يقال غلا في الشيء يغلو غلوا وغلا السعر يغلو غلاء إذا جاوز العادة، والسهم يغلو غلوا بفتح ثم سكون إذا بلغ غاية ما يرمى، وورد النهي عنه صريحا فيما أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من طريق أبي العالية عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر حديثا في حصى الرمي وفيه ‏"‏ وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين ‏"‏ وأما ‏"‏ البدع ‏"‏ فهو جمع بدعة وهي كل شيء ليس له مثال تقدم فيشمل لغة ما يحمد ويذم، ويختص في عرف أهل الشرع بما يذم وإن وردت في المحمود فعلى معناها اللغوي، واستدلاله بالآية ينبني على أن لفظ أهل الكتاب للتعميم ليتناول غير اليهود والنصارى، أو يحمل على أن تناولها من عدا اليهود والنصارى بالإلحاق، وذكر فيه سبعة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُوَاصِلُوا قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ قَالَ فَوَاصَلَ بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَيْنِ أَوْ لَيْلَتَيْنِ ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ

الشرح‏:‏

في النهي عن الوصال ‏"‏ وقد تقدم شرحه في ‏"‏ كتاب الصيام ‏"‏ وقوله هنا ‏"‏ لو تأخر الهلال لزدتكم ‏"‏ وقع في حديث أنس الماضي في ‏"‏ كتاب التمني‏"‏، ولو مد لي في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، وإلى هذه الرواية أشار في الترجمة لكنه جرى على عادته في إيراد ما لا يناسب الترجمة ظاهرا إذا ورد في بعض طرقه ما يعطى ذلك، وقد تقدم نحو هذا في ‏"‏ كتاب الصيام ‏"‏ بزيادة فيه وقوله ‏"‏ كالمنكي ‏"‏ بضم الميم وسكون النون وبعد الكاف ياء ساكنة من النكاية، كذا لأبي ذر عن السرخسي وعن المستملى براء بدل الياء من الإنكار، وعلى هذا فاللام في لهم بمعنى على وعن الكشميهني بفتح النون وتشديد الكاف المكسورة بعدها لام من النكال وهي رواية الباقين، وقد مضى في ‏"‏ كتاب الصيام ‏"‏ من طريق شعيب عن الزهري بلفظ ‏"‏ كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ خَطَبَنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍّ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ وَإِذَا فِيهَا الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَإِذَا فِيهِ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَإِذَا فِيهَا مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثني أبي‏)‏ هو يزيد بن شريك التيمي‏.‏

قوله ‏(‏خطبنا علي بن أبي طالب على منبر من آجر‏)‏ بالمد وضم الجيم هو الطوب المشوي ويقال بمد وزيادة واو، وهو فارسي معرب‏.‏

قوله ‏(‏فنشرها‏)‏ أي فتحها‏.‏

قوله ‏(‏فإذا فيها‏)‏ يحتمل أن يكون علي دفعها لمن قرأها، ويحتمل أن يكون قرأها بنفسه‏.‏

قوله ‏(‏المدينة حرم‏)‏ تقدم شرح ما يتعلق بذلك في أواخر الحج مستوعبا‏.‏

قوله ‏(‏ذمة المسلمين واحدة‏)‏ تقدم ما يتعلق بذلك أيضا في الجزية والموادعة، وقوله ‏"‏فمن أخفر ‏"‏ بالخاء المعجمة وألف أي غدر به، والهمزة للتعدية أي أزال عنه الخفر وهو الستر‏.‏

قوله ‏(‏من والى قوما بغير إذن مواليه‏)‏ تقدم ما يتعلق به في الفرائض، وتقدم في أواخر ‏"‏ كتاب الفرائض ‏"‏ أن الصحيفة المذكورة تشتمل على أشياء غير هذه من القصاص والعفو وغير ذلك، والغرض بإيراد الحديث هنا لعن من أحدث حدثا، فإنه وإن قيد في الخبر بالمدينة فالحكم عام فيها وفي غيرها إذا كان من متعلقات الدين، وقد تقدم شرح ذلك في باب حرم المدينة في أواخر ‏"‏ كتاب الحج ‏"‏ وقال الكرماني مناسبة حديث علي للترجمة لعله من جهة أنه يستفاد من قول علي ‏"‏ ما عندنا من كتاب يقرأ ‏"‏ إلخ تبكيت من تنطع في الكلام وجاء بغير ما في الكتاب والسنة كذا قال‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا تَرَخَّصَ فِيهِ وَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن الأعمش حدثنا مسلم‏)‏ هو ابن صبيح بمهملة وموحدة مصغرا وآخره مهملة، وهو أبو الضحى مشهور بكنيته أكثر من الله، وقد وقع عند مسلم مصرحا به في رواية جرير عن الأعمش فقال عن أبي الضحى به وهذا يغني عن قول الكرماني يحتمل أن يكون ابن صبيح، ويحتمل أن يكون ابن أبي عمران البطين، فإنهما يرويان عن مسروق ويروى عنهما الأعمش، والسند المذكور إلى مسروق كلهم كوفيون‏.‏

قوله ‏(‏قال قالت عائشة‏)‏ في رواية مسلم من عدة طرق عن الأعمش بسنده عن عائشة‏.‏

قوله ‏(‏ترخص فيه وتنزه عنه قوم‏)‏ قد تقدم في باب من لم يواجه الناس من ‏"‏ كتاب الأدب ‏"‏ هذا الحديث بسنده ومتنه وشرحته هناك، والمراد منه هنا أن الخير في الاتباع سواء كان ذلك في العزيمة أو الرخصة، وأن استعمال الرخصة بقصد الاتباع في المحل الذي وردت أولى من استعمال العزيمة بل ربما كان استعمال العزيمة حينئذ مرجوحا كما في إتمام الصلاة في السفر؛ وربما كان مذموما إذا كان رغبة عن السنة كترك المسح على الخفين، وأومأ ابن بطال إلى أن الذي تنزهوا عنه القبلة للصائم‏.‏

وقال غيره لعله الفطر في السفر، ونقل ابن التين عن الداودي أن التنزه عما ترخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب، لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله وهذا إلحاد‏.‏

قلت‏:‏ لا شك في إلحاد من اعتقد ذلك، ولكن الذي اعتل به من أشير إليهم في الحديث أنه غفر له ما تقدم وما تأخر، أي فإذا ترخص في شيء لم يكن مثل غيره ممن لم يغفر له ذلك فيحتاج الذي لم يغفر له إلى الأخذ بالعزيمة والشدة لينجو، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه وإن كان غفر الله له لكنه مع ذلك أخشى الناس لله وأتقاهم، فمهما فعله صلى الله عليه وسلم من عزيمة ورخصة فهو فيه في غاية التقوى والخشية، لم يحمله التفضل بالمغفرة على ترك الجد في العمل قياما بالشكر ومهما ترخص فيه فإنما هو للإعانة على العزيمة ليعملها بنشاط، وأشار بقوله ‏"‏ أعلمهم ‏"‏ إلى القوة العلمية، وبقوله ‏"‏ أشدهم له خشية ‏"‏ إلى القوة العملية أي أنا أعلمهم بالفضل وأولاهم بالعمل به‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ أَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ الْحَنْظَلِيِّ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ وَأَشَارَ الْآخَرُ بِغَيْرِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ إِنَّمَا أَرَدْتَ خِلَافِي فَقَالَ عُمَرُ مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ إِلَى قَوْلِهِ عَظِيمٌ قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَ عُمَرُ بَعْدُ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ إِذَا حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ

الشرح‏:‏

حديث ابن أبي مليكة في قصة أبي بكر وعمر في تأمير الأقرع بن حابس أو القعقاع ابن معبد على بني تميم، وفيه نزلت ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم‏)‏ وقد تقدم شرحه مستوفى في تفسير سورة الحجرات، وأن المقصود منه قوله تعالى في أول السورة ‏(‏لا تقدموا بين يدي الله ورسوله‏)‏ ومن هنا تظهر مناسبته للترجمة وقال ابن التين عن الداودي‏:‏ إن هذا الحديث مرسل لم يتصل منه سوى شيء يسير ومن نظر إلى ما تقدم في الحجرات استغنى بما فيه عن تعقب كلامه، وقوله ‏"‏وقال ابن أبي مليكة قال ابن الزبير ‏"‏ هو موصول بالسند المذكور قبله، وقد وقعت هذه الزيادة في رواية المستملي، وقد تقدم في تفسير الحجرات بعد قوله فأنزل الله تعالى ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم‏)‏ الآية، فقال ابن الزبير فذكره‏.‏

قوله ‏(‏فكان عمر بعد، ولم يذكر ذلك عن أبيه - يعني أبا بكر إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم إلخ‏)‏ هكذا فصل بين قوله ‏"‏ فكان عمر ‏"‏ في هذه الرواية وبين قوله ‏"‏ إذا حدث بهذه الجملة ‏"‏ وهي ‏"‏ ولم يذكر ذلك عن أبيه ‏"‏ وأخرها في الرواية الماضية في الحجرات ولفظه ‏"‏ فما كان يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستفهمه ولم يذكر ذلك عن أبيه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حدثه كأخي السرار‏)‏ أما ‏"‏ السرار ‏"‏ فبكسر السين المهملة وتخفيف الراء أي الكلام السر ومنه المساررة، وأما قوله ‏"‏ كأخي ‏"‏ فقال ابن الأثير معنى قوله ‏"‏ كأخي السرار ‏"‏ كصاحب السرار قاله الخطابي ونقل، عن ثعلب أن المعنى كالسرار، ولفظ ‏"‏ أخي ‏"‏ صلة، قال والمعنى كالمناجى سرا انتهى وقال صاحب الفائق لو قيل إن معنى قوله كأخي السرار كالمسارر لكان وجها والكاف في محل نصب على الحال، وعلى ما ماضي تكون صفة لمصدر محذوف؛ وقوله ‏"‏ لا يسمعه حتى يستفهمه ‏"‏ تأكيد لمعنى قوله كأخي السرار أي يخفض صوته ويبالغ حتى يحتاج إلى استفهامه عن بعض كلامه وقال في الفائق الضمير في يسمعه للكاف إن جعلت صفة للمصدر وهو منصوب المحل على الوصفية، فإن أعربت حالا فالضمير لها أيضا إن قدر مضافا وليس قوله لا يسمعه حالا من النبي صلى الله عليه وسلم لركاكة المعنى حينئذ والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ قُلْتُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا

الشرح‏:‏

حديث عائشة في أمر أبي بكر بالصلاة بالناس وفيه مراجعة عائشة وحفصة، وقد تقدم شرحه مستوفى في أبواب الإمامة من ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ والمقصود منه بيان ذم المخالفة‏.‏

وقال ابن التين وفيه أن أوامره على الوجوب، وأن في مراجعته فيما يأمر به بعض المكروه قلت‏:‏ وليس ما ادعاه من دليل الوجوب ظاهرا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ جَاءَ عُوَيْمِرٌ الْعَجْلَانِيُّ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَيَقْتُلُهُ أَتَقْتُلُونَهُ بِهِ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا فَرَجَعَ عَاصِمٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ الْمَسَائِلَ فَقَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ خَلْفَ عَاصِمٍ فَقَالَ لَهُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكُمْ قُرْآنًا فَدَعَا بِهِمَا فَتَقَدَّمَا فَتَلَاعَنَا ثُمَّ قَالَ عُوَيْمِرٌ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَفَارَقَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِرَاقِهَا فَجَرَتْ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْظُرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا مِثْلَ وَحَرَةٍ فَلَا أُرَاهُ إِلَّا قَدْ كَذَبَ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ فَلَا أَحْسِبُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ

الشرح‏:‏

حديث سهل بن سعد في قصة المتلاعنين وقد مضى شرحه مستوفي في ‏"‏ كتاب اللعان ‏"‏ والمقصود منه هنا ‏"‏ فكره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ‏"‏ ووقع في رواية الكشميهني ‏"‏ وعاب ‏"‏ بحذف المفعول‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ النَّصْرِيُّ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرًا مِنْ ذَلِكَ فَدَخَلْتُ عَلَى مَالِكٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ انْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ يَسْتَأْذِنُونَ قَالَ نَعَمْ فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَأَذِنَ لَهُمَا قَالَ الْعَبَّاسُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ الظَّالِمِ اسْتَبَّا فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ فَقَالَ اتَّئِدُوا أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ قَالَ الرَّهْطُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ قَالَا نَعَمْ قَالَ عُمَرُ فَإِنِّي مُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَالِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ الْآيَةَ فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ وَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ فَعَمِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ حَيَاتَهُ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَقَالُوا نَعَمْ ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ قَالَا نَعَمْ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمَا حِينَئِذٍ وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا كَذَا وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكِ وَأَتَانِي هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا فَقُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلَانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا وَإِلَّا فَلَا تُكَلِّمَانِي فِيهَا فَقُلْتُمَا ادْفَعْهَا إِلَيْنَا بِذَلِكَ فَدَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ قَالَ الرَّهْطُ نَعَمْ فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ قَالَا نَعَمْ قَالَ أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَوَالَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهَا

الشرح‏:‏

حديث مالك بن أوس في قصة العباس وعلي ومنازعتهما عند عمر في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم شرحه مستوفى في فرض الخمس والمقصود منه هنا بيان كراهية التنازع، ويدل عليه قول عثمان ومن معه ‏"‏ يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر ‏"‏ فإن الظن بهما أنهما لم يتنازعا إلا ولكل منهما مستند في أن الحق بيده دون الآخر، فأفضى ذلك بهما إلى المخاصمة ثم المحاكمة التي لولا التنازع لكان اللائق بهما خلاف ذلك، وقوله في هذه الطريق ‏"‏ اتئدوا ‏"‏ بتشديد المثناة بعدها همزة مكسورة أي استمهلوا، وقوله ‏"‏أنشدكم بالله ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أنشدكم الله ‏"‏ بحذف الباء وهو جائز، وقوله ‏"‏ما احتازها ‏"‏ بالمهملة ثم الزاي وللكشميهني بالمعجمة ثم الراء والأول أولى، وقوله ‏"‏وكان ينفق ‏"‏ وللكشميهني ‏"‏ فكان ‏"‏ بالفاء وهو أولى، وقوله ‏"‏فأقبل على علي ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ ثم أقبل ‏"‏ وقوله ‏"‏ تزعمان أن أبا بكر فيها كذا ‏"‏ هكذا هنا وقع بالإبهام، وقد بينت في شرح الرواية الماضية في فرض الخمس أن تفسير ذلك وقع في رواية مسلم، وخلت الرواية المذكورة عن ذلك إبهاما وتفسيرا، ويؤخذ مما سأذكره عن المازري وغيره من تأويل كلام العباس ما يجاب به عن ذلك وبالله التوفيق‏.‏

قال ابن بطال في أحاديث الباب ما ترجم له من كراهية التنطع والتنازع لإشارته إلى ذم من استمر على الوصال بعد النهي، ولإشارة علي إلى ذم من غلا فيه فادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بأمور من علم الديانة دون غيره؛ وإشارته صلى الله عليه وسلم إلى ذم من شدد فيما ترخص فيه وفي قصة بني تميم ذم التنازع المؤدي إلى التشاجر ونسبة أحدهما الآخر إلى قصد مخالفته، فإن فيه إشارة إلى ذم كل حالة تئول بصاحبها إلى افتراق الكلمة أو المعاداة، وفي حديث عائشة إشارة إلى ذم التعسف في المعاني التي خشيتها من قيام أبي بكر مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن التين معنى قوله في هذه الرواية ‏"‏ استبا ‏"‏ أي نسب كل واحد منهما الآخر إلى أنه ظلمه، وقد صرح بذلك في هذه الرواية بقوله ‏"‏ اقض بيني وبين هذا الظالم ‏"‏ قال ولم يرد أنه يظلم الناس وإنما أراد ما تأوله في خصوص هذه القصة ولم يرد أن عليا سب العباس بغير ذلك لأنه صنو أبيه، ولا أن العباس سب عليا بغير ذلك لأنه يعرف فضله وسابقته‏.‏

وقال المازري هذا اللفظ لا يليق بالعباس وحاشا عليا من ذلك فهو سهو من الرواة، وإن كان لا بد من صحته فليؤول بأن العباس تكلم بما لا يعتقد ظاهره مبالغة في الزجر وردعا لما يعتقد أنه مخطئ فيه، ولهذا لم ينكره عليه أحد من الصحابة لا الخليفة ولا غيره، مع تشددهم في إنكار المنكر، وما ذاك إلا أنهم فهموا بقرينة الحال أنه لا يريد به الحقيقة، انتهى وقد مضى بعض هذا في شرح الحديث في فرض الخمس، وفيه أنني لم أقف في شيء من طرق هذه القصة على كلام لعلي في ذلك، وإن كان المفهوم من قوله ‏"‏ استبا ‏"‏ بالتثنية أن يكون وقع منه في حق العباس كلام‏.‏

وقال غيره حاشا عليا أن يكون ظالما والعباس أن يكون ظالما، بنسبة الظلم إلى علي وليس بظالم وقيل في الكلام حذف تقديره أي هذا الظالم إن لم ينصف، أو التقدير ‏"‏ هذا كالظالم ‏"‏ وقيل هي كلمة تقال في الغضب لا يراد بها حقيقتها، وقيل لما كان الظلم يفسر بأنه وضع الشيء في غير موضعه تناول الذنب الكبير والصغير، وتناول الخصلة المباحة التي لا تليق عرفا فيحمل الإطلاق على الأخيرة والله أعلم